فصل: الوقوف:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.القراءات والوقوف:

قال النيسابوري:

.القراءات:

{تلاها} و{طحاها} مثل {دحاها} مثل {دحاها} [الآية: 30] في (النازعات) {فلا يخاف} بالفاء وضم الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير بناء على أن {قد أفلح} جواب القسم واللام محذوف أي لقد أفلح.

.الوقوف:

{وضحاها} o لا {تلاها} o ك {جلاها} o ك {يغشاها} o ك {بناها} o ك {طحاها} o ك {سواها} o لا ص {وتقواها} o لا {زكاها} o ك {دساها} o ط {بطغواها} o ط لأن الظرف يتعلق بـ: {كذب} أو بالطغوى {أشقاها} o {وسقياها} o {فعقروها} م ط {فسواها} o ط {عقباها} o. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَالشَّمْسِ وضحاها (1)}
قبل الخوض في التفسير لابد من مسائل:
المسألة الأولى:
المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات والتحذير من المعاصي.
واعلم أنه تعالى ينبه عباده دائماً بأن يذكر في القسم أنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة حتى يتأمل المكلف فيها ويشكر عليها، لأن الذي يقسم الله تعالى به يحصل له وقع في القلب، فتكون الدواعي إلى تأمله أقوى.
المسألة الثانية:
قد عرفت أن جماعة من أهل الأصول قالوا: التقدير ورب الشمس ورب سائر ما ذكره إلى تمام القسم، واحتج قوم على بطلان هذا المذهب، فقالوا: إن في جملة هذا القسم قوله: {والسماء وَمَا بناها} [الشمس: 5] وذلك هو الله تعالى فيلزم أن يكون المراد، ورب السماء وربها وذلك كالمتناقض، أجاب القاضي عنه بأن قوله: {وَمَا بناها} لا يجوز أن يكون المراد منه هو الله تعالى، لأن (ما) لا تستعمل في خالق السماء إلا على ضرب من المجاز، ولأنه لا يجوز منه تعالى أن يقدم قسمه بغيره على قسمه بنفسه، ولأنه تعالى لا يكاد يذكر مع غيره على هذا الوجه، فإذاً لابد من التأويل وهو أن {مَا} مع ما بعده في حكم المصدر فيكون التقدير: والسماء وبنائها، اعترض صاحب (الكشاف) عليه فقال: لو كان الأمر على هذا الوجه لزم من عطف قوله: {فَأَلْهَمَهَا} [الشمس: 8] عليه فساد النظم.
المسألة الثالثة:
القراء مختلفون في فواصل هذه السورة وما أشبهها نحو: {واليل إِذَا يغشى}، {والضحى واليل إِذَا سجى} فقرءوها تارة بالإمالة وتارة بالتفخيم وتارة بعضها بالإمالة وبعضها بالتفخيم، قال الفراء: بكسر ضحاها، والآيات التي بعدها وإن كان أصل بعضها الواو نحو: {تلاها}، و{طحاها} و{دحاها}، فكذلك أيضاً.
فإنه لما ابتدئت السورة بحرف الياء أتبعها بما هو من الواو لأن الألف المنقلبة عن الواو قد توافق المنقلبة عن الياء، ألا ترى أن تلوت وطحوت ونحوهما قد يجوز في أفعالها أن تنقلب إلى الياء نحو: تلى ودحى، فلما حصلت هذه الموافقة استجازوا إمالته كما استجازوا إمالة ما كان من الياء، وأما وجه من ترك الإمالة مطلقاً فهو أن كثيراً من العرب لا يميلون هذه الألفات ولا ينحون فيها نحو الياء، ويقوى ترك الإمالة للألف أن الواو في موسر منقلبة عن الياء، والياء في ميقات وميزان منقلبة عن الواو ولم يلزم من ذلك أن يحصل فيه ما يدل على ذلك الانقلاب، فكذا هاهنا ينبغي أن تترك الألف غير ممالة ولا ينحى بها نحو الياء، وأما إمالة البعض وترك إمال البعض، كما فعله حمزة فحسن أيضاً، وذلك لأن الألف إنما تمال نحو الياء لتدل على الياء إذا كان انقلابها عن الياء ولم يكن في تلاها وطحاها ودحاها ألف منقلبة عن الياء إنما هي منقلبة عن الواو بدلالة تلوت ودحوت.
المسألة الرابعة:
أن الله تعالى قد أقسم بسبعة أشياء إلى قوله: {قَدْ أَفْلَحَ} [الشمس: 9] وهو جواب القسم، قال الزجاج: المعنى لقد أفلح، لكن اللام حذفت لأن الكلام طال فصار طوله عوضاً منها.
قوله تعالى: {والشمس وضحاها} ذكر المفسرون في ضحاها ثلاثة أقوال قال مجاهد والكلبي: ضوؤها، وقال قتادة: هو النهار كله، وهو اختيار الفراء وابن قتيبة، وقال مقاتل: هو حر الشمس، وتقرير ذلك بحسب اللغة أن نقول: قال الليث: الضحو ارتفاع النهار، والضحى فويق ذلك، والضحاء ممدوداً امتد النهار، وقرب أن ينتصف.
وقال أبو الهيثم: الضح نقيض الظل وهو نور الشمس على وجه الأرض وأصله الضحى، فاستثقلوا الياء مع سكون الحاء فقلبوها وقال: ضح، فالضحى هو ضوء الشمس ونورها ثم سمى به الوقت الذي تشرق فيه الشمس على ما في قوله تعالى: {إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضحاها} [النازعات: 46] فمن قال من المفسرين: في ضحاها ضوؤها فهو على الأصل، وكذا من قال: هو النهار كله، لأن جميع النهار هو من نور الشمس، ومن قال: في الضحى إنه حر الشمس فلأن حرها ونورها متلازمان، فمتى اشتد حرها فقد اشتد ضؤوها وبالعكس، وهذا أضعف الأقوال، واعلم أنه تعالى إنما أقسم بالشمس وضحاها لكثرة ما تعلق بها من المصالح، فإن أهل العالم كانوا كالأموات في الليل، فلما ظهر أثر الصبح في المشرق صار ذلك كالصور الذي ينفخ قوة الحياة، فصارت الأموات أحياء، ولا تزال تلك الحياة في الازدياد والقوة والتكامل، ويكون غاية كمالها وقت الضحوة، فهذه الحالة تشبه أحوال القيامة، ووقت الضحى يشبه استقرار أهل الجنة فيها، وقوله: {والقمر إِذَا تلاها} قال الليل: تلا يتلو إذا تبع شيئاً وفي كون القمر تالياً وجوه:
أحدها: بقاء القمر طالعاً عند غروب الشمس، وذلك إنما يكون في النصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس، فإذا القمر يتبعها في الإضاءة، وهو قول عطاء عن ابن عباس.
وثانيها: أن الشمس إذا غربت فالقمر يتبعها ليلة الهلال في الغروب، وهو قول قتادة والكلبي.
وثالثها: قال الفراء: المراد من هذا التلو هو أن القمر يأخذ الضوء من الشمس يقال: فلان يتبع فلاناً في كذا أي يأخذ منه ورابعها: قال الزجاج: {تلاها} حين استدار وكمل، فكأنه يتلو الشمس في الضياء والنور يعني إذا كمل ضوؤه فصار كالقائم مقام الشمس في الإنارة، وذلك في الليالي البيض وخامسها: أنه يتلوها في كبر الجرم بحسب الحس، وفي ارتباط مصالح هذا العالم بحركته، ولقد ظهر في علم النجوم أن بينهما من المناسبة ما ليس بين الشمس وبين غيرها.
{وَالنَّهَارِ إِذَا جلاها (3)}
معنى التجلية الإظهار، والكشف والضمير في {جلاها} إلى ماذا يعود؟
فيه وجهان أحدهما: وهو قول الزجاج: أنه عائد إلى الشمس وذلك لأن النهار عبارة عن نور الشمس.
فكلما كان النهار أجلى ظهوراً كانت الشمس أجلى ظهوراً، لأن قوة الأثر وكماله تدل على قوة المؤثر، فكان النهار يبرز الشمس ويظهرها، كقوله تعالى: {لاَ يُجَلّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ} أي لا يخرجها الثاني: وهو قول الجمهور أنه عائد إلى الظلمة، أو إلى الدنيا، أو إلى الأرض.
وإن لم يجر لها ذكر، يقولون: أصبحت باردة يريدون الغداة، وأرسلت يريدون السماء.
{وَاللَّيْلِ إِذَا يغشاها (4)}
يعني يغشى الليل الشمس فيزيل ضوءها، وهذه الآية تقوي القول الأول في الآية التي قبلها من وجهين الأول: إنه لما جعل الليل يغشى الشمس ويزيل ضوءها حسن أن يقال: النهار يجليها، على ضد ما ذكر في الليل.
والثاني: أن الضمير في {يغشاها} للشمس بلا خلاف، فكذا في {جلاها} يجب أن يكون للشمس حتى يكون الضمير في الفواصل من أول السورة إلى هاهنا للشمس، قال القفال: وهذه الأقسام الأربعة ليست إلا بالشمس في الحقيقة لكن بحسب أوصاف أربعة أولها: الضوء الحاصل منها عند ارتفاع النهار.
وذلك هو الوقت الذي يكمل فيه انتشار الحيوان واضطراب الناس للمعاش، ومنها تلو القمر لها وأخذه الضوء عنها، ومنها تكامل طلوعها وبروزها بمجيء النهار، ومنها وجود خلاف ذلك بمجيء الليل، ومن تأمل قليلاً في عظمة الشمس ثم شاهد بعين عقله فيها أثر المصنوعية والمخلوقية من المقدار المتناهي، والتركب من الأجزاء انتقل منه إلى عظمة خالقها، فسبحانه ما أعظم شأنه.
{وَالسَّمَاءِ وَمَا بناها (5)} فيه سؤالات:
السؤال الأول:
أن الذي ذكره صاحب (الكشاف) من أن {مَا} هاهنا لو كانت مصدرية لكان عطف {فَأَلْهَمَهَا} عليه يوجب فساد النظم حق، والذي ذكره القاضي من أنه لو كان هذا قسماً بخالق السماء، لما كان يجوز تأخيره عن ذكر الشمس، فهو إشكال جيد، والذي يخطر ببالي في الجواب عنه: أن أعظم المحسوسات هو الشمس، فذكرها سبحانه مع أوصافها الأربعة الدالة على عظمتها، ثم ذكر ذاته المقدسة بعد ذلك ووصفها بصفات ثلاثة وهي تدبيره سبحانه للسماء والأرض وللمركبات، ونبه على المركبات بذكر أشرفها وهي النفس، والغرض من هذا الترتيب هو أن يتوافق العقل والحس على عظمة جرم الشمس ثم يحتج العقل الساذج بالشمس، بل بجميع السماويات والأرضيات والمركبات على إثبات مبدي لها، فحينئذ يحظى العقل هاهنا بإدراك جلال الله وعظمته على ما يليق به، والحس لا ينازعه فيه.
فكان ذلك كالطريق إلى جذب العقل من حضيض عالم المحسوسات إلى يفاع عالم الربوبية، وبيداء كبرياء الصمدية، فسبحان من عظمت حكمته وكملت كلمته.
السؤال الثاني:
ما الفائدة في قوله: {والسماء وَمَا بناها}؟
الجواب: أنه سبحانه لما وصف الشمس بالصفات الأربعة الدالة على عظمتها، أتبعه ببيان ما يدل على حدوثها وحدوث جميع الأجرام السماوية، فنبه بهذه الآية على تلك الدلالة، وذلك لأن الشمس والسماء متناهية، وكل متناه فإنه مختص بمقدار معين.
مع أنه كان يجوز في العقل وجود ما هو أعظم منه، وما هو أصغر منه، فاختصاص الشمس وسائر السماويات بالمقدار المعين، لابد وأن يكون لتقدير مقدر وتدبير مدبر، وكما أن باني البيت يبنيه بحسب مشيئته، فكذا مدبر الشمس وسائر السماويات قدرها بحسب مشيئته، فقوله: {وَمَا بناها} كالتنبيه على هذه الدقيقة الدالة على حدوث الشمس وسائر السماويات.
السؤال الثالث:
لم قال: {وَمَا بناها} ولم يقل: ومن بناها؟
الجواب: من وجهين الأول: أن المراد هو الإشارة إلى الوصفية، كأنه قيل: {والسماء} وذلك الشيء العظيم القادر الذي {بناها}، {ونفس} والحكيم الباهر الحكمة الذي {سواها}.
والثاني: أن ما تستعمل في موضع من كقوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ ءابَاؤُكُمْ مّنَ النساء} [النساء: 22] والاعتماد على الأول.
السؤال الرابع:
لم ذكر في تعريف ذات الله تعالى هذه الأشياء الثلاثة وهي السماء والأرض والنفس؟ والجواب: لأن الاستدلال على الغائب لا يمكن إلا بالشاهد، والشاهد ليس إلا العالم الجسماني وهو قسمان بسيط ومركب، والبسيط قسمان: العلوية وإليه الإشارة بقوله: {والسماء} والسفلية وإليه الإشارة بقوله: {والأرض} [الشمس: 6] والمركب هو أقسام، وأشرفها ذوات الأنفس وإليه الإشارة بقوله: {وَنَفْسٍ وَمَا سواها} [الشمس: 7].
أما قوله تعالى: {وَالْأَرْضِ وَمَا طحاها (6)} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى:
إنما أخر هذا عن قوله: {والسماء وَمَا بناها} لقوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دحاها} [النازعات: 30].
المسألة الثانية:
قال الليث: الطحو كالدحوا وهو البسط، وإبدال الطاء من الدال جائز، والمعنى وسعها.
قال عطاء والكلبي: بسطها على الماء.
أما قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سواها (7)}
إن حملنا النفس على الجسد، فتسويتها تعديل أعضائها على ما يشهد به علم التشريح، وإن حملناها على القوة المدبرة، فتسويتها إعطاؤها القوى الكثيرة كالقوة السامعة والباصرة والمخيلة والمفكرة والمذكورة، على ما يشهد به علم النفس.
فإن قيل: لم نكرت النفس؟.
قلنا: فيه وجهان أحدهما: أن يريد به نفساً خاصة من بين النفوس، وهي النفس القدسية النبوية، وذلك لأن كل كثرة، فلابد فيها من واحد يكون هو الرئيس، فالمركبات جنس تحته أنواع ورئيسها الحيوان، والحيوان جنس تحته أنواع ورئيسها الإنسان، والإنسان أنواع وأصناف ورئيسها النبي. والأنبياء كانوا كثيرين، فلابد وأن يكون هناك واحد يكون هو الرئيس المطلق، فقوله: {وَنَفْسٍ} إشارة إلى تلك النفس التي هي رئيسة لعالم المركبات رياسة بالذات الثاني: أن يريد كل نفس، ويكون المراد من التنكير التكثير على الوجه المذكور في قوله: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} وذلك لأن الحيوان أنواع لا يحصى عددها إلا الله على ما قال بعد ذكر بعض الحيوانات: {وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] ولكل نوع نفس مخصوصة متميزة عن سائرها بالفضل المقوم لماهيته، والخواص اللازمة لذلك الفصل، فمن الذي يحيط عقله بالقليل من خواص نفس البق والبعوض، فضلاً عن التوغل في بحار أسرار الله سبحانه.
أما قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها (8)}
فالمعنى المحصل فيه وجهان الأول: أن إلهام الفجور والتقوى، إفهامها وإعقالهما، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح وتمكينه من اختيار ما شاء منهما، وهو كقوله: {وهديناه النجدين} [البلد: 10] وهذا تأويل مطابق لمذاهب المعتزلة، قالوا: ويدل عليه قوله بعد ذلك: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها وَقَدْ خَابَ مَن دساها} [الشمس: 10 9] وهذا الوجه مروى عن ابن عباس وعن جمع من أكابر المفسرين.
والوجه الثاني: أنه تعالى ألهم المؤمن المتقي تقواه وألهم الكافر فجوره، قال سعيد بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها، وقال ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها بالفجور، واختار الزجاج والواحدي ذلك، قال الواحدي: التعليم والتعريف والتبيين، غير والإلهام غير، فإن الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً، وإذا أوقع في قلبه شيئاً فقد ألزمه إياه.
وأصل معنى الإلهام من قولهم: لهم الشيء، والتهمه إذا ابتلعه، وألهمته ذلك الشيء أي أبلغته، وهذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله تعالى في قلب العبد، لأنه كالإبلاغ، فالتفسير الموافق لهذا الأصل قول ابن زيد، وهو صريح في أن الله تعالى خلق في المؤمن تقواه، وفي الكافر فجوره، وأما التمسك بقوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها} فضعيف لأن المروي عن سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي أن المعنى قد أفلحت وسعدت نفس زكاها الله تعالى وأصلحها وطهرها، والمعنى وفقها للطاعة، هذا آخر كلام الواحدي وهو تام.
وأقول قد ذكرنا أن الآيات الثلاثة ذكرت للدلالة على كونه سبحانه مدبراً للأجسام العلوية والسفلية البسيطة والمركبة، فهاهنا لم يبق شيء مما في عالم المحسوسات إلا وقد ثبت بمقتضى ذلك التنبيه أنه واقع بتخليقه وتدبيره.
بقي شيء واحد يختلج في القلب أنه هل هو بقضائه وقدره وهو الأفعال الحيوانية الاختيارية، فنبه سبحانه بقوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} على أن ذلك أيضاً منه وبه وبقضائه وقدره، وحينئذ ثبت أن كل ما سوى الله فهو واقع بقضائه وقدره. وداخل تحت إيجاده وتصرفه.
ثم الذي يدل عقلاً على أن المراد من قوله: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وتقواها} هو الخذلان والتوفيق ما ذكرنا مراراً أن الأفعال الاختيارية موقوفة على حصول الاختيارات، فحصولها إن كان لا عن فاعل فقد استغنى المحدث عن الفاعل، وفيه نفي الصانع، وإن كان عن فاعل هو العبد لزم التسلسل، وإن كان عن الله فهو المقصود، وأيضاً فليجرب العاقل نفسه.
فإنه ربما كان الإنسان غافلاً عن شيء فتقع صورته في قلبه دفعة، ويترتب على وقوع تلك الصورة في القلب ميل إليه، ويترتب على ذلك الميل حركة الأعضاء وصدور الفعل، وذلك يفيد القطع بأن المراد من قوله: {فَأَلْهَمَهَا} ما ذكرناه لا ما ذكره المعتزلة.
أما قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زكاها (9)}
فاعلم أن التزكية عبارة عن التطهير أو عن الإنماء، وفي الآية قولان أحدهما: أنه قد أدرك مطلوبه من زكى نفسه بأن طهرها من الذنوب بفعل الطاعة ومجانبة المعصية.
والثاني: قد أفلح من زكاها الله، وقبل القاضي هذا التأويل، وقال المراد منه أن الله حكم بتزكيتها وسماها بذلك، كما يقال في العرف: إن فلاناً يزكي فلاناً، ثم قال: والأول أقرب، لأن ذكر النفس قد تقدم ظاهراً، فرد الضمير عليه أولى من رده على ما هو في حكم المذكور لا أنه مذكور.
واعلم أنا قد دللنا بالبرهان القاطع أن المراد، بألهمها ما ذكرناه فوجب حمل اللفظ عليه.
وأما قوله بأن هذا محمول على الحكم والتسمية فهو ضعيف، لأن بناء التفعيلات على التكوين، ثم إن سلمنا ذلك لكن ما حكم الله به يمتنع تغيره، لأن تغير المحكوم به يستلزم تغير الحكم من الصدق إلى الكذب، وتغير العلم إلى الجهل وذلك محال، والمفضي إلى المحال محال.
أما قوله ذكر النفس قد تقدم.
قلنا: هذا بالعكس أولى، فإن أهل اللغة اتفقوا على أن عود الضمير إلى الأقرب أولى من عوده إلى الأبعد، وقوله: {فَأَلْهَمَهَا} أقرب إلى قوله: {مَا} منه إلى قوله: {وَنَفْسٍ} فكان الترجيح لما ذكرناه، ومما يؤكد هذا التأويل ما رواه الواحدي في البسيط عن سعيد بن أبي هلال أنه عليه السلام كان إذا قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها} وقف وقال: «اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها وأنت مولاها، وزكها أنت خير من زكاها».
أما قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دساها (10)}
فقالوا: {دساها} أصله دسسها من التدسيس، وهو إخفاء الشيء في الشيء، فأبدلت إحدى السينات ياء، فأصل دسى دسس، كما أن أصل تقضى البازي تقضض البازي، وكما قالوا: الببت والأصل لببت، وملبي والأصل ملبب، ثم نقول: أما المعتزلة فذكروا وجوهاً توافق قولهم:
أحدها: أن أهل الصلاح يظهرون أنفسهم، وأهل الفسق يخفون أنفسهم ويدسونها في المواضع الخفية، كما أن أجواد العرب ينزلون الربا حتى تشتهر أماكنهم ويقصدهم المحتاجون، ويوقدون النيران بالليل للطارقين.
وأما اللئام فإنهم يخفون أماكنهم عن الطالبين.
وثانيها: {خَابَ مَن دساها} أي دس نفسه في جملة الصالحين وليس منهم.
وثالثها: {مَن دساها} في المعاصي حتى انغمس فيها ورابعها: {مَن دساها} من دس في نفسه الفجور، وذلك بسبب مواظبته عليها ومجالسته مع أهلها وخامسها: أن من أعرض عن الطاعات واشتغل بالمعاصي صار خاملاً متروكاً منسياً، فصار كالشيء المدسوس في الاختفاء والخمول.
وأما أصحابنا فقالوا: المعنى خابت وخسرت نفس أضلها الله تعالى وأغواها وأفجرها وأبطلها وأهلكها، هذه ألفاظهم في تفسير {دساها} قال الواحدي رحمه الله: فكأنه سبحانه أقسم بأشرف مخلوقاته على فلاح من طهره وخسار من خذله حتى لا يظن أحد أنه هو الذي يتولى تطهير نفسه أو إهلاكها بالمعصية من غير قدر متقدم وقضاء سابق. اهـ.